جهان حلو ميخائيل
توطئة
جهان حلو ميخائيل
في ظل الانهيار الوطني ووقائع إنهاء كينونة الوطن الواقع والأمل، في ظل اليأس والإحباط وسيادة الكابوس على الحلم، ومن جحيم صدمتنا و ذهولنا نحن، ذلك الجيل الذي حمل راية الثورة الفلسطينية المعاصرة وأخفق إخفاقا محزنا، ما علينا إلا أن نتذكر أبطالنا النموذجيين الذين حملوا معنا الراية وسقطوا على درب النضال. فمسيرة هذه النخبة علامة مشعة في حلك ليلنا الطويل تضيء الطريق للأجيال التوّاقة إلى استكمال مسيرة التحرير.
وفي هذا الزمن الرديء الذي يتم فيه تهميش دور المثقف كمحفز ومشارك في النضال التحرري والتغيير الاجتماعي، من خلال إغراءات السلطة والمال وإضعاف المؤسسات الثقافية والاجتماعية الحاضنة لنشاطه وإبداعاته، ومن خلال الممارسات اللاديمقراطية الهادفة إلى إسكات صوت الأقلية الجريئة المتحديّة لكل الديباجات المضللة في مسار تغييب الوطن والهوية، يصبح الاحتفاء بالمثقفين النموذجيين واجباً ملحاً.
وتصبح قضية إحياء ذكرى حنّا ميخائيل (أبو عمر) في طليعة هذه المهمّات، ليس لأن ظروف اختفائه ورفاقه في عام 1976 والتطورات السياسية اللاحقة حالت دون ذلك في السابق فحسب، بل لكونه يمثل نموذجاً متميزاً يشهد له كل من عرفه من أصدقاء ورفاق بل ومن خصوم أيضاً.
كانت البداية منذ بضع سنوات فقط عندما تلاشى الأمل كلّياً وأصبح عليّ مواجهة حقيقة استشهاد زوجي: شريك حياتي ورفيق دربي وصديقي الأعز، وتحويل الحزن والخسارة إلى عمل بنّاء يُبقي المُثل التي جسدها أبو عمر حيّة. وجدت آنئذٍ أن من الأنسب التركيز بداية ً على جهده الفكري، وإن كان من المؤسف أن يكون قد رحل عنا قبل أن يستكمل حلمه في كتابة تاريخ منطقتنا العربية برؤية جديدة بعيداً عما كتبه المستشرقون عنا، وأن تكون بداية هذا العمل قد فُقدت مع ما فُقد من كتاباته غير المنشورة خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982.
وكان من أهم كتاباته غير المنشورة المتبقية بعض الدراسات والنشرات التثقيفية بالإضافة إلى أطروحة الدكتوراه التي قُدِّمت عام 1968 إلى جامعة هارفرد بعنوان السياسة والوحي: المارودي وما بعده. وكان حنّا قد أمضى سنوات طويلة شاقة في البحث والتنقيب قبل أن يخرج بزبدة عمله المكثّف على هيئة أطروحة دكتوراه. ولم يكن اختيار حنّا لموضوعه المهم والدقيق صدفة، بل جاء تجسيداً لسعيه الدؤوب إلى معرفة الشمولية العميقة كأداة رئيسية في مسار التحرر والتقدّم، كما لم يكن مستحيلاً على التلميذ المتفوق الباحث باستمرار عن درب يقوده إلى وطنه أن ينقل تخصصه من الكيمياء التي نال فيها درجة البكالوريوس إلى دراسة الفكر الإسلامي.
وتقرر نشر الأطروحة بعد أن أكّد الأصدقاء المختصون الذين تمّت استشارتهم أن البحث مازال محتفظاً بقيمته الفكرية المتميزة، رغم مرور حوالي ربع قرن على وضعه، ورغم صدور عشرات الكتب التي تتناول الموضوع منذ ذلك التاريخ. وكان حنّا قد رفض عدة عروض لنشر الاطروحة في حينه راغباً في تطويرها أولاً وفي توضيح نقاط الخلاف مع المشرف الأكاديمي الدكتور نداف سفران.
واليوم إذ يصدر الكتاب باللغة العربية بعد عامين من صدوره بالإنجليزية عن دار نشر جامعة أدنبرة في بريطانيا، أود أن أُعرب عن عميق امتناني وتقديري لجميع المفكرين والأصدقاء الذين ساهموا بجهدهم ووقتهم لتهيئة هذا الكتاب للنشر وأتقدّم منهم جميعا بالشكر الجزيل.
وأخص بالذكر المستشرق الراحل السير هاملتون جبّ _ الذي كان حنّا قد شكره بنفسه لإشرافه على المسودة الأولى للأطروحة _ والمفكر الكبير إدوارد سعيد الذي كتب التقديم في ذكرى "أبو عمر" كصديق قديم وكمثقف جريء لا يتعب ولا يلين في الدفاع عن مبادئه وأفكاره. كذلك أتقدم بالشكر الجزيل للصديقة البروفيسورة بيانكا ماريا سكارسيا أموريتّي، رئيسة قسم الدراسات الشرقية في جامعة روما، لحماسها في أن يرى الكتاب النور ولمساهمتها القيّمة في كتابة مقدمته. وللمؤرخ الراحل البروفيسور ألبرت حوراني، كل الشكر لما كان لتقييمه العالي للبحث من دفع للإسراع بنشره.
ومن دواعي الاعتزاز أن يُساهم بتهيئة الكتاب للنشر بعض المفكرين العرب المختصين في هذا المجال، فإليهم جميعاً شكري وتقديري، وأخص بالشكر البروفيسور رضوان السيد لتشجيعه وحثّه على نشر الكتاب، وللجهد الكبير الذي بذله في تحديث المصادر ولمراجعته الدقيقة للترجمة العربية. كما أتوجه بالشكر إلى كل من البروفيسور عزيز العظمة لمراجعته النص ولتحديث المصادر، والأستاذ فالح عبد الجبّار لمراجعته النص والترجمة العربية، وأشكرهما أيضاً لاستعدادهما الدائم للإجابة عن أي استفسار.
وأخيراً أتقدّم بالشكر الخاص من الفنان الفلسطيني المبدع كمال بلاّطة الذي وضع التصميم المعبر لغلاف الكتاب.
وأرى من الواجب هنا أن أقدّم الشكر الحار والتقدير لكل من قام أو سيقوم بإحياء ذكرى عزيزنا "أبو عمر"، إما من خلال الكتابة عنه أو نشر أفكاره ومآثره وقيمه النضالية، أو من خلال عمل تكريمي يُخلّد ذكراه. فذكراه وذكرى كل أبطالنا النموذجيين جزءٌ عضويٌ من ذاكرتنا الجماعية التي علينا إبقاؤها حيّة متوقدة في مسيرتنا نحو تحقيق حلم "أبو عمر": فلسطين الديمقراطية العلمانية.
وختاماً لا يسعني إلا أن أعبر عن اعتزازي ومحبتي لأفراد عائلتي: حلو وميخائيل، الذين كانوا خير سند لرعايتهم ومساندتهم الدائمين لي.
شباط (فبراير) 1997
ar كتاب السياسة والوحي: الماوردي وما بعده ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.19 + AHUNTSIC
Contact Email
info (at) abu-omar-hanna.info