في الذاكرة: صورتان من المقاومة
في الذاكرة (*): صورتان من المقاومة
ترتبط كلمة "فلسطيني" هذه الأيام تلقائيا، وعلى الأقل ضمن الإطار السياسي، بكلمة "سلطة"، الأمر الذي يستحضر صورا لكيان لا سيادة له في الواقع ولا سلطة قضائية حقيقية وإنما سلطة محدودة لدرجة مؤلمة ودرجة قليلة من الكرامة يزيد في تقزيمها في الواقع رعاتها وأسيادها الإسرائيليون والأميركيون. ويصعب في مثل هذه الظروف تذكّر الزمن الذي كانت فيه كلمة "فلسطين" تستحضر تلقائيا كلمة "مقاومة" وما يرافقها من تداعيات مختلفة.
كانت "المقاومة الفلسطينية" في الستينات والسبعينات حركة مكونة من رجال ونساء يسمّون أنفسهم فدائيين، حيث التضحية بالنفس من اجل القضية الفلسطينية كانت سبب وجودهم. قاموا بذلك في مجالات عدة منها الثقافية والاجتماعية والسياسية والعسكرية. العديد منهم قدموا ذروة التضحية من اجل هذه القضية. من بين أولئك عدد كبير من أبرز كوادر وقادة الحركة الذين كانوا منذ السبعينات وما بعد مستهدفين بالاغتيال من قبل إسرائيل وفي بعض الأحيان من قبل أنظمة عربية معادية. الأبرز من بين أولئك الشهداء كان الكاتب والفنان الموهوب غسان كنفاني الذي قتل على أيدي عملاء إسرائيل قبل أربعين عاما.
لكن الأخطاء والحسابات الخاطئة والانحرافات والفساد استطاعت في السنين اللاحقة، تبديد صورة الأيام الأولى لانبعاث الحركة الوطنية الفلسطينية. لذلك نرحب كثيرا بالمقالين القصيرين التاليين عن فدائيين رحلا عنا لنحيي ذاكرتنا عن زمن كان فيه الالتزام والتضحية بالذات في المقاومة الفلسطينية القاعدة وليس الاستثناء–أو على الأقل كانت المُثل السائدة الواجب اتباعها.
ومن محض الصدف أن يأتي هذان المقالان في الوقت ذاته، كونهما يتعلقان برجلين فصلت أربعة عقود تقريبا بين وفاتهما: "أبو عمر" اختفى من الشاطئ اللبناني في العام 1976، و"محجوب عمر" توفي في القاهرة في أوائل هذا العام. برز هذان الرجلان من بين الرجال والنساء الناكري الذات الذين ملأوا صفوف المقاومة في السنين الأولى لتفانيهما وإخلاصهما المطلق للقضية ولذكائهما والتزامهما بخدمة القضية. لم يكن أي منهما معروفا كثيرا في العالم الخارجي، إنما كلا الرجلين كان مشهورا ليس فقط داخل حركة فتح التي انتميا إليها بالرغم من سياستهما الماركسية، بل خارج الحركة وابعد من ذلك بكثير.
التحق الرجلان بالمقاومة في نفس الوقت تقريبا، في أعقاب حرب 1967 وتعرفا على بعضهما من خلال عملهما في مركز التخطيط الفلسطيني. كان الرجلان على درجة عالية من العلم تمكنهما من اختيار مهن أكثر راحة. كرّس الرجلان حياتهما لخدمة الغير كل على طريقته الفريدة. مساهماتهما الأهم كانت سياسية وثقافية تهدف إلى مكافحة الاتجاهات السلبية داخل الحركة الوطنية الفلسطينية التي لسوء الحظ نمت أكثر بعد ذلك، فمثلا الذين عرفوهما كما عرفتهما أنا كان يلفتهم دائما بساطتهما وتواضعهما رغم مواهبهما وذكائهما الحاد.
تذكرنا سيرة حياتهما بتاريخ الأيام الأولى للحركة الوطنية الفلسطينية، التي نسيها إلى حد كبير جيل لم يعرف غير خيبات أمل السنين التي تلت الانسحاب القسري لمنظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في العام 1982 والتسويات المأسوية الفاشلة لسنوات أوسلو. انضم أبو عمر (وهو الاسم الحركي لحنا إبراهيم ميخائيل) ومحجوب عمر (اسمه الحقيقي رؤوف نظمي ميخائيل) إلى المقاومة لأنهما كانا ملتزمين بتغيير الوضع القائم الراكد في منطقة عربية مليئة بأنظمة تتميز بخطاب قومي فارغ ويسيطر عليها قوى إقليمية وعالمية، من إسرائيل وشاه إيران إلى الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
كان أبو عمر الذي ترك حياة أكاديمية في الولايات المتحدة، واحدا من عدة فلسطينيين عادوا من الخارج، لوضع قدراتهم في خدمة شعبهم. أما محجوب عمر، وهو مناضل مصري خدم المقاومة الفلسطينية على مدى خمسة عشر عاما وكان واحدا من آلاف المتطوعين الذين انضموا الى حركة المقاومة من جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه. وفي زمن يتم فيه استغلال معيب للدين عبر الشرق الأوسط، لغايات متعددة أخرى، يجدر بنا أن نتذكر مسارات هذين الرجلين المثقفين والعلمانيين المتشربين بالأفكار الماركسية، اللذين كانا يحترمان بشدة دور الدين في المجتمع الفلسطيني والعربي.
كَتبَ هذين المقالين في ذكرى أبو عمر ومحجوب عمر شخص قريب من كل منهما. المقال الذي عن أبو عمر كتبته زوجته، جهان حلو، رفيقته في المقاومة. والمقال الثاني عن محجوب عمر كتبه إلياس خوري، محرر مجلتنا العربية، مجلة الدراسات الفلسطينية، وقد عرفه جيدا خلال السنوات التي قضاها في بيوت وبعدها في القاهرة. يختلف المقالان كثيرا. مقال جهان حلو وصفي أكثر، ويسرد سيرة ذاتية ويركز على أهمية آراء زوجها السياسية. أما مقال إلياس خوري فيتسم باستعادة الذكريات. وباستذكار هذين الرجلين الاستثنائيين، النموذجين، فإنهما ينقلان ببلاغة روح مرحلة ولّت منذ زمن بعيد، ومن حسن حظ مجلة الدراسات الفلسطينية (JPS) أن تتمكن من نشرهما.
رشيد خالدي **
* ترجمة مقدمة كتبها د. رشيد الخالدي لمقاليّ جهان حلو وإلياس خوري المنشورين في مجلة الدراسات الفلسطينية الإنجليزية ويعاد نشرها بالاتفاق مع المجلة في القسم الإنجليزي من موقع أبو عمر.
** د. رشيد الخالدي: رئيس تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية الإنجليزية (Journal of Palestine Studies) ومؤرخ فلسطيني-أمريكي. يعمل بروفيسورا للدراسات العربية الحديثة في جامعة كولومبيا، ومديرا لمدرسة الشؤون الدولية والمحلية التابعة لمعهد الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا.
المقالان بالعربية
(1) حنا ميخائيل (أبو عمر): سيرة مناضل وإنسان عصية على الاختفاء
بقلم: جهان حلو
مجلة الدراسات الفلسطينية. عدد شتاء 2012.
http://www.palestine-studies.org/files/pdf/mdf/11211.pdf
(2) محجوب عمر: الفدائي و"خدّام اللطافة"
بقلم: إلياس خوري
مجلة الدراسات الفلسطينية. عدد صيف 2012.
http://www.palestine-studies.org/files/pdf/mdf/11331.pdf
مع الشكر لمجلة الدراسات الفلسطينية على الموافقة على نشر الموضوع في هذا الموقع.
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.19 + AHUNTSIC
Contact Email
info (at) abu-omar-hanna.info