بيانكا ماريا سكارسيا
السياسة والوحي: المارودي وما بعده
مقدمة
بيانكا ماريا سكارسيا أموريتي
بالنسبة لي حنّا ميخائيل كان وسيبقى "أبو عمر". عرفني عليه وائل زعيتر في روما سنة 1969 على ما أذكر، وكان على الأرجح في طريق عودته من لقاء طلابي مهم في ميلانو. لم أكن أعلم أنه كان مستشرقاً وأن حقل اختصاصه هو الأسلام وتحديداً إسلام العصر الوسيط، إلى أن أرسلت إليّ زوجته جهان الحلو منذ سنتين أُطروحته طالبةً أن أقرأها أخذاً بالاعتبار إمكانية نشرها. لقد فهمتُ أنّ أبا عمر لم يكن يريد نشرها إلا بعد تطويرها وإجراء بعض التعديلات عليها، لكنها تعديلات لم يتسنّ لها أن ترى النور بسبب النهاية المفجعة والمفاجئة لحياته.
التقيته لأنني كنت قد بدأت التعاطي مع الشأن الفلسطيني وقد اعتبرته، ببساطة، ممثلاً للمقاومة الفلسطينية. كنتُ قد سلكتُ المسلك نفسَه الذي عبره العديد من المفكّرين من أبناء جيلي: مناضلاً يسارياً وعالمثالثياً يرفع راية الجزائر وفيتنام.
كانت مقاربتي الأولى للمسألة الفلسطينية بعد حرب الأيام الستة، من جهة بسسب ردة فعل الرأي العام غير المتوازن والواضح الانحياز إلى المعتدي الذي اعتُبر الضحية، ومن جهة ثانية رغبةً مني شخصياً، بعد تولّي منصبي الجامعيّ عام 1968، في أن يكون لعملي الأكاديميّ الجامعيّ محتوى يتجاوز المناهج التقليدية ويكون شاهداً، إلى أبعد مدى ممكن، على التزامنا الصادق بالواقائع التي كنا نَدرسُها.
كان لقاءنا مدعاة سرور بمعنى أن نوعاً من التلاؤم أخذ ينمو بيننا. وعلماً مني اليوم أن المهنة قد جمعتنا، فإنّ بي ميلاً إلى أن أنسب ذلك إلى مساحةٍ ثقافية مشتركة، بل خزّان معرفةٍ غَرَف منه كلانا؛ يخص العالم العربيّ والاسلام، وهو الذي قرّب الهوّة بين شخصٍ مثله ينتمي إلى ذلك العالم، وإن لم يولد مسلماً، وشخص مثلي من المحتم أنّ نظرته إلى العالم قد جاءت من خارجه، وإن كانت نظرة متعاطفة.
لكنّ ذكرياتي، ولا أحسبُها شديدة الدقّة (ذلك أن كلينا وافق على أن هو شيء منه كان على حقٍّ في قوله إنّ التاريخ يجب أن يُصنع لا أن يُروى)، تعيد مكان الصدارة إلى النواحي السياسية وأخص منها اجتماعاً في منزلي مع المستشرق الفرنسيّ المعروف مكسيم رودنسون، وكان أبو عمر قد عبّر عن رغبته في لقائه.
طُرفة واحدة غير سياسية تعود إلى ذاكرتي من ذلك اليوم وهي تمتّعْه بسلطة الشّمر والبرتقال الصقلّي كما لو أنها آكلةٌ رائعة غيرُ عاديّة. قمنا بنشاطات مشتركة وعقدنا الاجتماعات كما حضرنا العديد منها. كان دوري دورَ المرافق والمترجم، لكن في الحقيقة كان ميخائيل يتمتع ب "كاريسما" إنسانية وسياسية استأثرت باهتمامي أكثر بكثير مما توقعتُ في البداية. فلو شئت أن أرد الفضل إلى ذويه بتعريفي على تاريخ فلسطين وعالم المقاومة الفلسطينية لعدتُ بالفكر بعد وائل زعيتر إلى أبي عمر. أستعيدُ في ذكرياتي بعضاً مما قمنا به، فقد زرنا فروعاً محليةً للحزب الشيوعي؛ وشاركنا في اجتماعات النقابات العمالية، وعقدنا لقاءات مع طلابي (نَظَّموا خلال واحدٍ منها اعتصاماً). عُرضتْ أفلامٌ، وقُدِّم الكثير من الوثائق، وطُرحت نظريات المنظمين ونوقشت مع الأشخاص المتعاطين بذلك الشأن مباشرة أي الفلسطينيين الذين كان يُمثّلهم أبو عمر. كان ذلك على الأرجح عام 1970 أو 1971. في تلك الفترة كانت الحركة الطلابية ذات اتجاهين اثنين تميّزَ أحدهما بشعار "فلسطين الحمراء"، والثاني بشعار "فلسطين الحرة"، لكنّ المرحلة آنذاك لم تكن تنتج أسباباً للانقسام والتناقضات داخل المقاومة الفلسطينية. لهذا السبب، ولسنواتٍ عديدة، ورغم أن هؤلاء الطلاب استمرّ كلٌ منهم على رأيه حول ما يجب أن تكونه فلسطين المستقبل، فقد عملوا معاً متعاونين إلى أبعد حدود قدرتهم على التعاون.
لا أحسبني قادرة على تحديد التواريخ للقاءاتنا: لكنني أعرف أننا لم نَلتَقِ بعد اغتيال وائل زعيتر في العام 1972.
لا أبو عمر ولا أنا كنا نُعلِّق أي أهمية على مستوى الوظيفة أو الرتبة الإدارية لأي شخص كان
يعمل في المنظَّمة. لكنني علمت فيما بعد أنه (أبا عمر) كان قد انتسب عضواً إلى Tribunale Russell II التي كانت قد اتخذت من إيطاليا قاعدةً لها، ذلك ما أخبرني به ليلو باسّو، رئيسها، بعد أن أصبحتُ واحداً من معاونيه المنتظمين.
علمتُ بصورة غير مباشرة، خصوصاً من جهان، عن الأحداث في حياته، وإنني لأشعر شخصياً بما أكسبني إياه لقائي به وتعاوني معه من الغنى، كما أشعر بأسى متعدد الجوانب على أنني لم أفعل أكثر مما فعلت، ولم يتسنَّ لي أن أعرفه في العمق أكثر مما عرفته، وإنني لأستطيع سماع صوته يشرح لنا الآن الأحداث الراهنة، لعلّنا بذلك نتغلّب على الشكوك وعلى التردد، ولمَ لا أقول على خيبات الأمل أيضاً.
منذ عشرين سنة تقريباً أعربَ د. ب. ليتل، في مقالٍ1 تناول دراسات وأبحاثاً عن المارودي، عن أمله في أن تُنشر أطروحة حنّا ميخائيل للدكتوراه2. لقد أكد جازماً أن هذه الأطروحة تستحق "انتشاراً أوسع"3، ليس فقط لأنها جاءت بعناصر جديدة مثل التعريف بالمارودي باعتباره "مفكراً حراً4"، وبالتالي عدم جواز اعتباره جزءاً من الأشعرية أو المعتزلة، ولكن أيضاً لأنها دراسة _ بخلاف معظم الدراسات عن المارودي التي استندت إلى واحد من كتبه فقط هو الأحكام السلطانية، أو حتى إلى جزء منه فقط5 _ شملت نتاج المؤلف بكامله وقدمت نوعاً من التحليل "في العمق" مبنياً على مقارنةٍ لأفكار المارودي كما جاءت في نصوصه المختلفة.
إن العمل والتقييم هذين لا يزالان صحيحين في أساسهما كل الصحة، ذلك أنه حتى رائعة هـ. لاووست التي صدرت في الوقت ذاته تقريباً الذي ناقش فيه ميخائيل أطروحته6 (والتي سأستشهد بفقراتها تكراراً) لا تسدّ الفراغ الذي أشار إليه ليتل. لذا فإنني أعتبره أمراً في غاية الأهمية أن يرى النور كتاب السياسة والوحي: المارودي وما بعده: تقديراً لفضل حنّا ميخائيل وإسهاماً ثميناً في الدراسات الإسلامية الراهنة.
هذا السبب وحده يكفي تعليلاً لضرورة نشر كتاب ميخائيل، ففي واقع الحال يكاد يصعب أن نزيد شيئاً على عمله في إعادة تركيب "فكر المارودي".
===
القسم الأساس من المقال مراجعة وتحليل للكتاب.
النص الكامل مرفق وفي جسم الكتاب.
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.19 + AHUNTSIC
Contact Email
info (at) abu-omar-hanna.info